Tuesday 16 September 2008

فـتـاة الـمـتـرو

ما أحقر هذا المخلوق الذي كرمه الله .... فلقد كرم الله الإنسان وجعله افضل المخلوقات , هكذا كانت إرادة الخالق ولكن يبدو أن إرادة المخلوق كانت مخالفة لارادة الخالق فاراد أن يكون أحط وأحقر المخلوقات وأبى أن يقبل تكريم خالقه.
كانت هذه الأفكار تدور على شكل علامات استفهام داخل عقل يوسف بعد ذلك اليوم الغريب الذي قضاه في شوارع القاهرة وداخل وسائل مواصلاتها .
لم يكن يوسف كغيره من الشباب ممن هم في مثل عمره , فلقد تعدى الثالثة والعشرون ولم يكن لديه من تجارب وخبرات الحياة ما كان عند غيره , فلم يكن له احتكاك مباشر بالناس من حوله حتى عندما كان في الجامعة لم يكن له علاقات بزملائه فكان ينهى محاضراته ويعود بعدها إلى منزله , هكذا نشا منغلقا على نفسه وكان جميع من حوله لا يدركون سببا لهذه العزلة حتى جاء هذا اليوم , فلقد اضطر غير باغ ولا عاد بالنزول إلى الشارع لقضاء مصلحة لأسرته وكان عليه ركوب المترو أولا ثم استبداله بالأتوبيس حتى يصل إلى المكان الذي سيقضي به مصلحته .كانت الساعة الحادية عشر ولم يكن وقت ذروة , لذلك كانت المواصلات غير مزدحمة كما هى في الصباح أو بعد فترة الظهيرة .....لذلك لم يشعر يوسف بما يشعر به معظم سكان القاهرة عندما يضطرون لركوب الأتوبيس أو الولوج إلى عربة المترو . لم يلفت انتباه يوسف أثناء ذهابه بالأتوبيس سوى شخصين , الأول كان رجلا في العقد الرابع من العمر .... ركب الأتوبيس وهو مستندا على عكازه , فهم يوسف بالنهوض ليجلس الرجل إلا أن الرجل أشار له بالنفي واخبره انه لم يركب الأتوبيس ليجلس فتعجب يوسف وإذ فجأة بالرجل يوجه حديثا إلى كل الراكبين في صوت ملئ بالحزن والألم والأمل والرجاء " يأحباب رسول الله , أخوكم عاجز ومش لاقي , ثم يخرج صورة أشعة طبية ويبدأ في سرد قصته التي تفطر قلب الكافر فيحكى كيف فقد ابنه الوحيد الذي كان يعوله ويصرف على علاجه وهاهو ألان اصبح وحيدا في هذه الدنيا لا يجد من يتولاه أو يساعده . لم يستطع يوسف أن يتمالك نفسه فاغرورقت عيناه بالدمع ولم يشعر بنفسه إلا وهو يمد يده في حافظة نقوده ليخرج عشرة جنيهات ويعطيها للرجل الذي فرح بها كثيرا ولم يجد سبيلا لرد هذا المعروف سوى الدعاء ليوسف بان يجزيه الله خيرا ويكثر من أمثاله . أما الشخص الثاني فكان جالسا بجانب يوسف في الأتوبيس والذي تعجب كثيرا من موقف يوسف حيث باغته بنظرة استنكار واستغراب واستهزاء وسأله : ايه ياستاذ ؟ هو انت معاك فلوس ومش عارف توديها فين ؟ فتعجب يوسف من السؤال ورد عليه بسؤال : انت ليه بتقول كده ؟ فضحك الرجل واخبر يوسف انه بلا ريب قادما من كوكب اخر , ثم قام وهو يضحك ونزل في المحطة التالية , لم يعلم يوسف علام يضحك الرجل وراح يراقبه من نافذة الأتوبيس وهو يبتعد ولايزال يضحك...!
أنهى يوسف مهمته وقرر الرجوع إلى منزله , كانت الساعة الواحدة والنصف ظهرا ولم يكن يعلم أن مثل هذا الوقت في القاهرة ما هو إلا صورة مصغرة وتقريبية لما سيكون عليه المشهد يوم القيامة . ولا يوجد اختلاف سوى أن الناس يوم القيامة سيكونون عرايا بلا ملابس . نزل يوسف سلالم مترو الأنفاق بصعوبة بالغة , فالمنظر اقرب إلى أمواج بحر هائجة ترتطم ببعضها فهناك من يريد النزول وهناك من يريد الصعود . واخيرا استطاع يوسف الوصول إلى الرصيف ولكن كان من الصعب عليه المشاركة في الهجوم الذي قام به الناس وآثر الابتعاد قليلا ليأخذ المترو التالي ولكنه وجد ازدياد الناس بالمحطة يفوق معدل مرور المترو فكانت المحطة تزداد ازدحاما فقرر أن يركب أول مترو يمر , وبالفعل وباقتراب المترو تأهب يوسف للركوب وفجأة وجد نفسه بين سيل جارف من البشر يتدافعون من كل اتجاه حتى وجد نفسه قد دخل المترو مدفوعا بتلك الأجساد التى تحيطه ولم يشعر بنفسه الا وهو " محشورا " بداخل العربة بينما بدا المترو في مغادرة المحطة.
كان الجو خانقا وسط هذا الحشر , اقترب المترو من المحطة التالية فبدأت حركة الناس تزداد وبمجرد توقف المترو حدث نفس الاندفاع الذي حدث وقت صعود يوسف فشعر وكأنه قطعة ملابس تلتف حول نفسها داخل إحدى الغسالات , لم يستطع الاستمرار داخل هذا الصندوق المغلق وقرر النزول , وبواسطة قوة الدفع وجد نفسه على الرصيف مرة أخرى . وقف يوسف يستنشق بعض الهواء الا أن صوت تلك الفتاة التى جثت على ركبتيها وانهارت في بكاء مرير جعل يوسف وكل الواقفين في المحطة يتوقفون عما كانوا يفعلونه , توجه كثير من الواقفين نحو الفتاة ليعلمو ما حدث الا أن الفتاة كانت منهارة ولا تستطيع التحدث وبدا الذهول على وجهها الذي كسته دموعها المنهمرة من عينيها وسألها أحدهم هل ضاع منك شئ ولكنها لم تستطع الرد واستمرت في بكائها ..... وإذا بصوت غليظ يخترق الحشد الذي تجمهر حول الفتاة فإذا بها امرأة في عقدها الرابع ترتدى عباءة سوداء ضيقة تبرز مدى اكتناز جسدها الذي ساعدها على تخطى الناس حتى وصلت إلى الفتاة وساعدتها على النهوض وهى ترمق الجميع بنظرة احتقار لكل الواقفين لعدم تمكنهم من استنتاج ما حدث واخبرتهم بصوت غليظ " شابة صغيرة هارية نفسها من العياط ..... أكيد واحد ابن حرام مسك سدرها " .
سرت رعشة بجسد يوسف عندما سمع كلام المرأة فهو من بين قليلين يعلمون معنى أن ينتهكك أحدهم ويعبث بجسدك حيث كان هذا هو سبب عزلته وانغلاقه على نفسه , تراجع إلى الوراء قليل حتى وجد مقعدا خاليا , فجلس عليه ووضع رأسه بين كفيه وبدا يتذكر ما حدث له عندما كان صغيرا حيث كانت تتركه أمه عند جارتها إثناء ذهابها إلى العمل وحدث ما حدث .
لم يستطع أن يتمالك نفسه وسالت الدموع على خديه , الا انه أعاد ظهره إلى الوراء بانفعال بعد أن سمع ردود أفعال الواقفين فقال أحدهم " لا أول واحدة ولا اخر واحدة يحصلها كده" وقالت إحدى الواقفات " إيه اللي يخليها تحشر نفسها وسط الرجالة الا لو كانت عايزة يحصلها كده " . كانت الدهشة بادية على وجه يوسف وهو ينظر للناس من حوله ولا يعلم أن كان مستيقظا أم نائما ويرى ابشع كابوس في حياته , ووسط كل هذا كانت الفتاة لاتزال تبكى وبجانبها تلك المرأة ذات العباءة السوداء تربت على كتفيها وتواسيها ... كان يود أن يذهب إليها ويعتذر لها عما حدث بصفته رجلا ..... كان يود أن يخبرها أن الرجال ليسو جميعا مثل بعض وان منهم من لا ينظر إلى المرأة باعتبارها نهدا ومؤخرة وساقين ..... ولكنه لم يستطع فهو لم يخاطب فتاة من قبل .... قام يوسف من مقعده واقترب منها متخطيا بعض من ظلوا واقفين حولها وعندما رأى وجهها شعر بمدى حقارة هذا المخلوق الهمجي المثير للاشمئزاز المسمى بالرجل , شعر بان الموت أهون من يحيا منتسبا لهذا الجنس ... فهذه الحادثة سوف تترك اكبر الأثر على نفسية تلك الفتاة , وليس ببعيد أن تصاب بعقدة نفسيه تجعلها تكره الرجال والزواج .
ظلت تلك الأفكار تدور في رأسه حتى سمع صوت صياح أخرجه مما هو فيه ولكن هذه المرة كان صياح رجل في منتصف العمر يجري وسط الناس وهو يلطم خديه كالنساء ويقول " اتسرقت....فلوسي راحت ...الحقوني يا ناس .." وبالطبع لم يستطع أحد أن يفعل له شئ سوى التفوه بتلك العبارات " معلش ... قدر الله وما شاء فعل .... عوضك على ربنا .." وقف الرجل بجانب يوسف وهو يتمتم قائلا " يعنى يارب تبعتلى رزق وبعدها تبعتلى واحد يسرقه ...طب ليه؟ حكمتك يارب " . كعادة يوسف في مثل تلك الحالات وهى أن يخرج حافظة نقوده الا أن هذه المرة كانت مختلفة حيث لم تكن هناك حافظة نقود .
خرج يوسف من محطة المترو يفكر في كل ما حدث ولا يدرى إذا كان ما رآه شيئا طبيعيا يحدث كل يوم أم أنها مجرد صدفة . قرر يوسف الرجوع إلى منزله حتى يتسنى له التفكير في كل ما حدث , وقبل أن تطأ قدمه خطوة واحدة رأى اكثر الأشياء التي أصابته بصدمة في حياته ... حتى إنها اكبر واعمق من حادثة التحرش التى تعرض لها وهو صغير على يد جارته ... فلقد رأى على الرصيف المقابل فتاة المترو تقف ومعها المرأة ذات العباءة السوداء وشاب في العشرين من عمره , يمسك كل واحد منهم بحافظة نقود ويخرج ما بداخلها من نقود ثم يعطوها جميعا للمرأة ذات العباءة السوداء التي تمسك بالنقود ثم تدفنها في فتحة صدرها تحت ملابسها .
جثا يوسف على ركبتيه وانتابته حالة هستيرية من الضحك .
تـمـت

3 comments:

  1. العزيز سما / تحياتى لك
    يوسف جاى من كوكب تانى على اغلب الظن . شخص بهذا النقاء وفى الجامعة اجده من المستحيل واقعيا ان يتواجد فى هذا المجتمع الذى تركز على زيف اخلاقة وارتداءه لاقنعة تستجلب التراحمية على التعاقدية
    فكرة القصة جيدة
    احترامى لك
    وحيد جهنم

    ReplyDelete
  2. العزيز وحيد , شكرا لمرورك ولن اعلق سوى بجملة صغيرة " شخصية يوسف حقيقية وكان صديقا لي ايام الجامعة" صدق او لا تصدق ولكنها الحقيقة

    ReplyDelete
  3. ههههههههههههههه
    بحب القصه دي اوي
    بس انت كل قصصك مستوحاه من حياه حقيقيه اين الخيال

    ReplyDelete